يعود بداية العمل بالنظم التقاعدية بفلسطين منذ العهد العثماني حيث كان هناك قانون ينظم نهاية الخدمة لموظفي القطاع العام أو ما كان يسمى “مأموري الدولة”، حيث يوفر له دخل محدد بعد نهاية خدمته وفق محددات وردت في القانون، واستمر العمل به حتى في وقت الإنتداب البريطاني مع إدخال بعض التعديلات.

ولكن المفهوم الحديث لأنظمة التقاعد في فلسطين بدأ تطوره بالتوازي مع التطور الحاصل في الدول العربية المحيطة وهي جمهورية مصر العربية والمملكة اللأردنية الهاشمية نظراً لحكم هذه الدول لأجزاء من فلسطين في ذلك الوقت أبان الإنتداب البريطاني لتحافظ على سلامة وأمن المواطنين.

ويعتمد المفهوم الحديث لأنظمة التقاعد على المساهمة من المشتركين في خلال فترة عملهم حتى تاريخ التقاعد في سن الشيخوخة أو مدة خدمة كافية ليستحق صرف معاش تقاعدي أو نهاية الخدمة بسبب العجز الصحي، كذلك يستحق الورثة في حالة وفاة المشترك معاشا تقاعدياً.

وقد ظهرت هذه الانظمة في بدايتها في أوروبا وتحديداً في ألمانيا في العام 1889 حيث صمم المســتشـار اللألماني “أوتـو فـون بســمارك” “Otto Von Bismarck” نظـام الضمان الإجتماعي للمســنين، والذي تطــور فيما بعد لينتشــــر ويطبـــق في العــديـد من دول العالم وهـو ما يعــرف اليوم بنمــوذج التـقـاعد البســــماركـي “Bismarkian Pension Model”، ومن ثم ظهرت أنظمة أخرى تختلف بآلية المساهمات وإعادة توزيع الدخل والمنافع، وهي من ضمن نماذج النظم المعرفة بـ “المنافع المحددة” “Defined Benefits (DB)”، منها “Beveridgean System” ونظام المساهمات المحددة “Defined Contribution DC)” نظام المساهمات المحددة الإسمية “Notional Defined Contributions (NDC) ”، ومن ثم ظهرت نماذج وتطبيقات تجمع ما بين الأنظمة المذكورة السابقة لتحافظ على التنوع في التطبيق حرصا على التنوع في المخاطر والأهداف الإقتصادية والإجتماعية وهو ما يعرف “بتعدد الأنظمة” “Multi-Pillar Systems”. إلا أن كلها في مجملها كانت تشترك في الهدف وهو الحماية الإجتماعية والضمان الإجتماعي تتفاوت فيه المنافع والميزات للمشتركين وفقاً لتوفر القدرة العامة للدولة والمشتركين في الدخل واللإلتزام في المساهمات والإدارة السليمة، ويبقى هذا الإختلاف بين الدول قائم حتى يومنا هذا وحتى في الدول التي تستخدم نفس النظام البنيوي للنظم التقاعد الواحدة فإنها تختلف في تطبيق المحددات لهذه النظم كونها تتأثر بكثير من العوامل ومنها السياسية والإقتصادية والديموغرافية والإجتماعية. وفي هذا الإطار، فقد نشأت مؤسسات عالمية وظهرت أبحاث متعددة خلصت إلى وضع أهداف موحدة ومعايير محددة لتوجه دفة الإصلاح في دول العالم للوصول إلى مبدأ المساواة والعدالة الإجتماعية خلال إعادة توزيع الدخل وكذلك الشفافية والنزاهة في إدارة هذه الأنظمة.

وتعود بداية الأنظمة السارية حالياً في فلسطين إلى وقت الحكم الحكم المصري لقطاع غزة وإنظام الضفة إلى المملكة الأردنية الهاشمية منذ العام 1948، حيث تم في العام 1954 إنشاء صندوق التأمين والإدخار بموجب مرسوم حاكم عام فطاع غزة رقم 311 لسنة 195، وقد طبق على الموظفين المعينين على درجات دائمة وكانت تصرف مرتباتهم من الموازنة العامة الحكومية، واستمر هذا النظام حتى سنة 1963 وبموجبه كان الموظف يساهم من راتبه نسبة بسيطة وتساهم الحكومة نسبة أخرى وعند بلوغ الموظف سن التقاعد أو الوفاة تدفع له المبالغ المدخرة في حسابه دفعة واحدة.

أما في الضفة الغربية فقد كان يسري على موظفي القطاع العام نظام التقاعد المدني وفق قانون رقم 34 لسنة 1959، وقد كانت فيه نسبة مساهمة المشترك 7% وتتحمل الحكومة نسبة أخرى، ولكن تم تخفيض هذه النسبة وقت الإحتلال الإسرائيلي إلى 2% مما أضر بتوازن الصندوق على المدى البعيد وأفرغ جعل من النظام غير صالح للتعميم على باقي فئات المنتفعين حيث تكاليفه أصبحت باهظة على الخزينة العامة.

فيما بعد، تم في العام 1964 تنظيم التقاعد في قطاع غزة بشكل أكثر عصرية وأعم فائدة حيث صدر في عهد الحكم المصري بقطاع غزة قانون التأمين والمعاشات رقم 8 لسنة 1964، الذي بموجبه أصبح يستقطع 10% من راتب الموظف مقابل 12.5% من جهة التشغيل وقد إمتد نطاق المشتركين والمنتفعين بأحكام هذا القانون ليشمل كل منك موظفي الحكومة وموظفي الشرطة المدنية وموظفي الأوقاف الإسلامية في حينه وموظفي البلديات والمجالس القروية.

في العام 1967 تبدأ مرحلة أخرى من مراحل نظم التقاعد الفلسطينية وهي بعد الإحتلال الاسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية وشرق القدس، حيث شهدت أنظمة التقاعد فيها حالة من جمود والركود، وحتى شهدت تراجع في بعض التطبيقات للقوانين السارية بدلا من توسعة الشمولية وتطوير المنافع، فقد أصدر الحاكم الاسرائيلي المحتل في 15/12/1967 الأمر العسكري رقم 133 لسنة 1967 بتعطيل قانون التأمين والمعاشات رقم 8 لسنة 1964، واستمر هذا التعطيل حتى 1/1/1969، لتعود مديرية صندوق التأمين والمعاشات تزاول عملها السابق بتطبيق قانون التأمين والمعاشات، وفي هذه المدة الطويلة والقاسية كانت تطرأ على القانون تعديلات كتيرة من أهمها أنت نسبة مساهمة المشترك الـ 10% لم تعد مقصورة على الراتب الأساي بل أصبحت تستقطع أعتباراً من 01/11/1991 من كامل الراتب الذي يتقاضاه الموظف، أما في الضفة الغربية التي كان الموظفين فيها يخضعون لنظام التقاعد المدني رقم 34 لسنة 1959 فقد تم تخفيض نسبة الاشتراك من 7% لتصبح 2% فقط وهو ما أضر بالنظام والمشتركين عامة حيث أصبح النظام عبارة عن تأمين وإدخار لا يفي بحاجات الموظفين عند نهاية الخدمة لطارئ.

وفي هذه المرحلة بالذات، في زاد عدد السكان الفلسطينيين بالتوازي مع تدهور عام في كافة الخدمات العامة، وإقتصار نظم التقاعد على الموظفين في القطاع العام فقط دون باقي الفئات في المجتمع وحتى هؤلاء الذين عملوا في داخل الإحتلال لإضطرارهم من كسب الدخل، لم يتم تطوير نظم التقاعد في فلسطين لتشملهم وتشمل ذويهم فبقوا عرضة للقرارات الإحتلال الجائرة بوقفهم عن العمل دون استحقاقات نهاية خدمة عادلة.

أما في العام 1994 مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية وفق إتفاق أوسلوا للسلام، فقد بدأت السلطة الفلسطينية بدراسة الوضع الإجتماعي في قطاع غزة والضفة والتي لم تكن لديها السلطة الكاملة في بسط نفوذها على هذه المحافظات وفق إتفاقية السلام كونها مرحلية في طبيعتها، وبالتالي وجدت الكثير من العقبات والتحديات أثناء محاولة السلطة معالجة القضايا الداخلية. وقد أولت إهتماما بالغة في تطوير نظم التقاعد المعمول بها وكان أول قرار في توسعة الشمولية هو إصدار قرار رئاسي بتطبيق نظام التأمين والمعاشات رقم 8 لسنة 1964 على موظفي القطاع العام في الضفة الغربية، ومن ثم إصدار قانون التأمين والمعاشات لقوى الأمن الفلسطيني رقم 16 لسنة 2004 ليشمل موظفي قوى الأمن الفلسطينية بكافة تشكيلاتها، وهو قانون مشابه لقانون التأمين والمعاشات رقم 8 لسنة 1964.

واستمر التعاون مع المؤسسات الدولية في هذا المجال لدراسة إصلاح أنظمة التقاعد وتوحيد جهة الإشراف والإدارة لها ووصولا إلى حماية إجتماعية لكافة المواطنين في فلسطين ضمن مباديء نظم الضمان الإجتماعي الدولية وهي ديمومة النظام من خلال الحفاظ على التوازن المالي للصندوق والمساواة والكفاية والحوكمة السليمة.

وكانت ثمار نتائج الجهود في هذا الإطار إصدار قانون التقاعد العام رقم 7 لسنة 2005، وتعديلانه بقرار بقانون رقم 5 لسنة 2007 نظرا لوجود بعض التحفظات عليه وقت إصداره، فهو قانون عصري ويعتمد على تعدد الأنظمة ولكن الوضع الراهن في فلسطين يسودة حالة من عدم الاستقرار وسط الأزمات مالية وإقتصادية وسياسية تقف عائقاً أمام التقدم وتتطلب ترتيبات خاصة لها. ورغم ذلك فإن مشروع توسعة الشمولية لباقي فئات المجتمع هو هدف قائم ومن ضمن أولويات هيئة التقاعد الفلسطينية التي تشرف على إدارة نظم التقاعد العامة في فلسطين وفق قانون التقاعد العام، ويعتد التقدم فيه على التغييرات في الواقع الفلسطيني من الاستقرار. هذا، وقد إنضمت الهيئة إلى عدد من المؤسسات الدولية والإقليمية في هذا المجال وتشارك نشاطاتها ودراساتها للوصول لأفضل التطبيقات في الحماية الإجتماعية وبما يخدم المواطن الفلسطيني وتأسيسي الدولة الفلسطينية.

وفي نفس الوقت وبشكل موازي لجهود الهيئة، فقد تم تشكيل لجنة وطنية للحماية الإجتماعية تضم الحكومة وهيئة التقاعد الفلسطينية مع ممثلين عن المشغلين في القطاع الخاص والعاملين والمؤسسات العامة الأخرى وأكاديميين لتدارس الوضع ورفع توصياتها للحكومة أول بأول حسب ما يتم الإتفاق عليه في اللجنة بشأن الضمان الإجتماعي.

بقلم/
أيمن عبد الفتاح الدقي